سورة التحريم (66)

هذه مسودة
4/27/2005


سورة التحريم
في هذه السورة:
يختار الله سبحانه وتعالى خمسة من أسماءه الحُسنى لينبه لها في هذا السورة.  فالله هو الغفور، والرحيم، والعليم، والخبير، والحكيم،  ويُرْجِعُ لذاته القدسية صفة الولي للرسول وللمؤمنين. 
أما أفعاله عز وجل المذكورة في هذه السورة فهي عشرأفعال،  فالله فرضَ تحلة الأيمان، ونبأَ نبيه صلى الله عليه وسلم، ،  وأظهرَ السر ، ويبدل الرسول أزواجا، ولايخزي النبي والذين معه، ويتم النور، يُكَفِّرَ عن الإنسان و وَيُدْخِلَه الجنة، ويضرب المثل،  وينفخ من روحه في فرج مريم العذراء.
والرسول يخاطَب مباشرة في هذه السورة: لينتهي عن التحريم الذي في غير محله. وليحلل من يمينه، ولينظر في احتمال طلاق أزواجه،  وليجاهد الكفار والمنافقين، وليغلظ على الكفار والمنافقين.  كما أنه في هذه السورة  يُعرف بعض ما أطلعه الله عليه،  ويرد العلم لله سبحانه.  
نظرة مجملة في السورة:
هذه السورة[1] مدنية، وتسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم[2].  خلال اثنتا عشر آية تقدم السورة عرضا متناسقا،  تتفاعل فيه حياة الإنسان الخاصة مع أبعادها الإجتماعية،  وتقدم خلالها تناهيات الحدث الخاص بآثاره في الفضاء الإجتماعي العام،  وتؤكد أن هذه التفاعلات بين ما هو خاص وما هو عام لا يرفع المسؤولية عن الفرد؛  بل أن مسؤولية الفرد تتجاوز حدود الذات لتشمل كل الذين شملهم الفضاء الخاص للإنسان.  فتؤكد أن نجاة الفرد وأهله من عذاب النار مسؤولية يتحملها كل فرد في العائلة. 
فالحدث (أو الأحداث) الخاص هنا يتم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهله، ولكن بُعده الإجتماعي كبير حيث يعتبر لحظة ممكنة لتعميم الظاهرة واقرارها على الصعيد العام.  وبذلك فهي لحظة خطيرة مرت،  كان من الممكن أن تتحول إلى سابقة "تشريعية" تفرض ذاتها على الأمة جمعاء.  ولكن الله سبحانه وتعالى يضع نهاية لإشكالية محتملة،  ويعيد الحدث إلى دائرته الخاصة.  وفي الوقت نفسه تؤكد الآيات أن الفضاء الخاص الذي تعالجه ليس كفضاء أي إنسان.  بل هو الفضاء الخاص بالنبي صلوات الله عليه وسلامه،  في هذا الفضاء لا يجد الرسول نفسَه وحيدا في مواجهة مشاكله بل أن الله سبحانه وتعالى يعلن أنه مولاه وكبير ملائكته ومن صلح من المؤمنين حتى الملائكة يقومون بدورهم في نصرة نبيه المصطفى. 
ثم تلتفت بنا الآيات نحو نتائج أعمالنا ومسؤولياتنا التي تتجاوز النجاة بالذات لتأمرنا بالسعي لإنقاذ أهلينا. وتذكرنا بحال الكفار والمؤمنين يوم القيامة.  وقبل أن تبتعد في هذا تعود لتكرار صياغة مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانها تذكر أن ما يجري في داخل الأسرة قد يكون سببا للإنشغال في مشاكلها عن مجاهدة أعداء الدين والأغلاظ عليهم.  وتختم السورة بأربعة شخصيات نسائية انتقلن بخياراتهن الخاصة ليتحولن إلى جزء من الفضاء العام التاريخي. 
تراتيل:
إن حياة الإنسان تدور بمحيطين رئيسسين، المحيط الأصغر وهو المحيط الخاص، حيث يتركب من أفراد اسرته المقربون وحلقة العلاقات الإجتماعية القريبة التي يبنيها من حوله سواء مع من له علاقة دموية أو علاقة "عاطفية."  والمحيط الثاني هو المحيط العام،  وهو المجتمع الذي يعيش به هذا الإنسان ويتبادل معه المعطيات ويؤثر به ويتأثر به،  فهو ذلك الجزء من شبكة العلاقات العامة التي تنقل التفاعلات بين كل المحيطات الخاصة دون تمييز،  والحدث الإجتماعي قد يكون محله المحيط الخاص أو المحيط العام.  فهناك ظواهر تقع ضمن المحيط الخاص لا تتجاوز آثارها هذا المحيط.  وهناك ظواهر تقع في المحيط العام و تختلف ردات الفعل عليها  بين أسرة وأخرة ومن فرد لأخر، ولكن ما يجعل الظاهرة عامة هو قدرتها على التأثير بالمحيطات الخاصة بطريقة ما وإن اختلفت آثارها من محيط خاص لآخر. 
والرسول صلوات الله عليه يعيش حياته كأي منا ضمن محيطه الخاص.  غير أن صفة النبوة التي ناداه الله سبحانه وتعالى بها في مطلع السورة تجعل الفعل الخاص الدائر في أسرته يحمل أيضا صفاة الحدث العام الي تتجاوز آثاره حياته الخاصة. 
 وهناك الفضاء أو المحيط الثالث الذي يميز وجود المسلم؛ وهو الفضاء الإلهي، والذي يعكسه إيماننا بالغيب، وإيماننا بالآخرة والجنة والنار،  وهذا الفضاء الإلهي يتفاعل معنا كما نتفاعل معه ضمن الفضاء الخاص وضمن الفضاء العام.  فهو يتفاعل معنا من خلال رسالة الله لعباده وأحكامه ونصوصه،  ونتفاعل معه في خياراتنا اليومية المعاشية، والعبادية، والفكرية، وغيرهم؛ فهذا الفضاء الرباني لايَفْرِضُ ذاته علينا - والله قادر على ذلك.-  بل تفاعلنا معه ينعكس في قدرتنا على تحديد الدور الذي نرغب أن يلعبه في حياتنا. 
الفضاء الرابع هو الفضاء النبوي، أو التشريعي، أو التقنيني (من قانون)، وهو يتمثل في مجموعة القواعد والقوانين التي نختارها لتحدد وتنظم العلاقات بين الفضاءات الثلاثة الخاص، والعام، والرباني. كما أنه يضمن مجموعة القواعد التي تحكم العلاقات داخل هذه الفضاءات. 
لنعط مثالا:  عندما أشتري سيارة لابنتي فإن هذا الحدث يدور في الفضاء الخاص حيث مجاله عائلتي الصغيرة، وخياري للدور الذي سيلعبه الفضاء الرباني في هذه القضية قد يتمثل في نيتي، فأنا الذي أقرر فيما إذا كان الشراء لوجه الله سبحانه وتعالى وبغية كفاية أهلي، فإنني قد اخترت وجودا قويا للفضاء الرباني في حياتي.  أما إذا كان هناك تغييب لهذه النيية فعندها أقول أنني أخترت أن "أعزل" أو أُحيد الوجود الرباني عن هذه القضية. 
وعملية شراء السيارة تحمل صفة عامة فأنا أشتريها من السوق الذي هو عام في طبيعته، فعلاقتي كفرد يجب أن تمر أيضا من خلال الفضاء النبوي (القانوني).  فإن اخترتُ والسوقُ عقدَ شراء ربوي فالفضاء الذي اخترته لن يكون فضاءا نبويا بل فضاءا قانونيا.  ومن ناحية أخرى يمكننا أن نرى البعد العام لحدث خاص صغير كهذا، تخيل أن ابنتي ستكون أول أمرأة تقود سيارة في المجتمع على سبيل المثال.  بهذه الفرضية الصغيرة سَهُل رؤية تحول الحدث الخاص إلى حدث عام بالدرجة الأولى والذي ستتجاوز تفاعلاته حدود الفضاء الخاص لأسرتي.  وهذا مثال صغير كيف تتقاطع الفضاءات الأربعة في حياة الإنسان.
وإذا أدركنا هذه الفضاءات الأربعة فسننتبه لحقيقة جميلة، أن خلال عملية التنزيل القرآني، خلال فترة الوحي، كان الفضائين الرباني والنبوي في مرحلة التشكيل في عقل الإنسان. فكما أن العقل الإنساني كان يتلقى هذا التنزيل، كان يتفاعل مع التنزيل وينمو بالإتجاه الصحيح.  بل أن التجربة النبوية هي منهاج يبين لنا كيف تفاعل الفضاء النبوي مع التنزيل الرباني.  فالله سبحانه وتعالى يبدأ السورة باقرار فصل واضح وصريح بين الفضاء النبوي والفضاء الرباني.  فالله سبحانه بقوله يا أيها النبي "لم تحرم" يؤكد لنبيه على أهمية الفصل بين دوره كرسول وفعله كإنسان.  فالله اختار مصطلح النبوة عن الرسالة في هذه الآية لمناسبتها. فالآيات تؤكد أن "التحريم" -محل الحدث- أنه ليس جزئا من الرسالة ولكن هذا لا يرفع عن الرسول نبوته.   
فالنبي صلوات الله تعالى عليه ليس بالمُشرع[3] وإن كان هو مصدرا للتشريع.  فهو ناقل للرسالة من الله سبحانه وتعالى،  وقد يختلط على الناس التفريق بين حكمه الشخصي ورسالته الإلهية، لذلك كان لابد من التدخل السريع لينشأ التمييز بينهما.  هذه الأهمية في التمييز نراها صريحة بحديث عائشة "تقول سودة والله لقد حرمناه[4]" فقد أدركت سودة أن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم سيجعل ذلك النوع من العسل محرما.  لذلك كان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن ينزل الوحي ليبين اشتطاط هذا المنطق ورفض مثل هذا التعميم. 
وهنا يجب أن ندرك بأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن للرسول بالإمتناع عن التحريم على الذات (أكل العسل أومهما كان سبب النزول)  ولم يعلن أنه بإمكان النبي تحريم العسل على نفسه على أن لا يحرمه على الناس.  بل أكد بأن القضية ليست تحريما بل هو مجرد يمينا يجب التحلل منه. فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم مازالت قدوة لنا في كل أموره.  وما زال عمله مرجعا غير قابل للمراجعة.  وقد يحلو للبعض البحث عن أفعال أو أقوال من الرسول صلى الله عليه وسلم ويحاول قياسها على حدث كهذا.  ولكن هذا الأمر مردود لأن الله سبحانه وتعالى الذي لم يدع رسوله في ريب في شربة عسل حاشاه أن يرفع خبر السماء في اقل من هذا أو أكبر. 
والله سبحانه وتعالى لم ينزل حكما في هذه الآيات، فيمين محمد صلى لله عليه وسلم  لا يتجاوز على أن يكون كقسم أي من الناس في هذا الموضوع، ويعفيه التحلل منه، فالله لم ينزل حكما معاكسا له لأن حكم التحريم لم يكن أصلا لكي ينسخ بآية.
وقد ذهب كثيرا من الفقهاء في بناء على هذه الحادثة على احكام من حرم شيئا من المباحات على نفسه، ومنها حديث ابن عباس "فكفر يمينه فصير الحرام يمينا[5]" أنظر تفسير المجادلة أيضا.  ولكن بين تحريم الرسول وتحريم أحدنا فرقا شاسعا. فإن حرمْتُ شيئا على نفسي بيمين كانت قضية خاصة بي وحدي.  أما تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم فالعقدة فيها هي تلك النقلة بين الخاص والعام.  فمقولة سودة السالفة "تقول سودة والله لقد حرمناه"  تؤكد أن الذي جعل الأمر جل هو جعل تحريم الرسول على نفسه سببا في تحريمه على المجتمع. والرسول صلى الله عليه وسلم الذي أدرك عمق الوحي وحكمته نراه يشرب واقفا مرة "ليرفع الحرج عن أمته" ولطالما بدأت أحاديث بقوله "لولا أن أشق على أمتي."
في سياق هذا الفصل بين المجالات الأربعة تأتي قصة "الإسرار" كمثال على حدث خاص يتم في دائرة ضيقة حول الرسول صلى الله عليه وسلم.  ولكن الله سبحانه وتعالى ينقل القضية مباشرة إلى المجال العام ولم يتركها في الفضاء الأسري الخاص.  فبعد أن بين أن عملية التحريم السابقة غير مقبولة، وأن أفعال النبي وأقواله هو مصدر تشريع، يقدم الله مثالا عمليا بمساندته لرسوله المطلقة.  فهو يطلعه على ما يدور بين أزواجه.  ويليه بتهديد يجعل هذه الأزواج في صف مواجهة مع الله وجبريل وصالح المؤمنين والملئكة.  فمحاولات التلاعب للتأثير على حياة الرسول الخاصة غير مقبولة البتة.  والله يفسح المجال لهذه الأزواج للإصلاح والهداية مبينا صفاة البدائل الممكن والتي يجب عليهن أن يسعين للتحلي بها. 
وهناك لفتات في الآيات جديرات بالذكر.  فالله يخبر الرسول بما جرى بين نساءه.  والرسول صلى الله عليه وسلم يختار أن يطلعهن على بعض ما عرف عنهن. فالرسول اختار المعلومات الضرورية المناسبة والكافية لمعالجة القضية التي يواجها. وفي هذه عبرة بأن كثيرا من القضايا  تقتضي الحكمة أن تعالج عن طريق تحجيمها قدر الإمكان.  ففي كثير من المشاكل ولاسيما العائلية يسعى أحدنا لتفريغ كل المشاكل المتراكمة السابقة بلحظة واحدة.  فالرسول يختار أن يصرح كفاية من المعلومات التي نبأه الله بها تمكنه من تحديد المشكلة ومعالجتها.  وبهذه حكمة لنا أن نسعى دائما لتجزءة المشاكل عوضا عن تراكمها. 
ولفته أخرة تكمن في ردها: " قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا" إذ يقر الله سبحانه وتعالى بمشروعية ردات الفعل الإنسانية في حالات الفرار من المسؤولية.  فهو لم يعتبر أن السؤال بذاته أثم، فمحاولة الشريك أو الآخر التهرب من المشكل الرئيسي نابع من صميم الطبيعة الإنسانية.  وكثيرا ما نرى في حياتنا اليومية أن الإنسان يحول مثل هذا الجواب " قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا" إلى مشكلة بذاتها.  ولكن رسول الله بحكمته أجاب كقائد سفينة يقودها إلى بر الأمان إجابة على قدر السؤال "قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ"
في خضم التعليمات التي تسعى لدرء الشرخ وأصلاح ذات البين على الصعيد الأسري. تنتقل الآيات للحديث على مسؤوليتنا عن هذا الفضاء الخاص الذي يتمثل بأنفسنا وأهلينا،  وكيف أن هذه المسؤولية تمتد لتجد نتائجها في الفضاء الرباني الغيبي.   فأعمالنا الخاصة لها نتائج عامة ولكن الأهم من هذا أن نتائجها في المجال الرباني قد تكون مدمرة.  وكثيرا منا يرى اليوم العابدين والقانتين وغيرهم وقد ظنوا أنهم سينجوا بذاتهم.  فكم نرى ذلك الإنسان وقد عمر مسجده بالحجارة وخرب علاقاته مع أهله وذويه.  حتى يكاد احدنا لا يسمع من يتكلم بصلة الرحم بعد. وإن أراد اصلاحهم فعلاقاته معهم قائمة على الترهيب والترغيب.  أين ذلك الذي يقرأ هذه الآية فنراه شمر عن ساقه يسعى لإنقاذ ذويه من النار كطبيب يسعى لمراضاة طفل  مريض.   
ويتم العرض هنا بين الجنة والنار كتحقيق واقع لا مفر منه.  فالنار وقودها الناس والحجارة، والكفار لا يجديهم الإعتذار اليوم، والآيات تصور الأمور في شأنهم منتهية، فهناك شعور بالإحباط والعجز يترافق مع حالة الكفار.  أما الذين آمنوا فالإمكانات مفتوحة بين أيديهم فالتوبة ما زالت ممكنة ووعد الله بالتكفير وإدخال الجنه ما زال قائما.  ونفسية المؤمن نراها منفتحة تطلب المزيد إلى آخر لحظات الكون،  فالسعي للأفضل دائما في طباعهم، وثقتهم في كرم الله وعطائه لايزول،  فيسألون أن يتم الله نورهم وأن يغفر لهم. { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} 
وهناك نقلة إلى الفضاء العام في الآيات إذ يقول الله لنبيه بمواجهة فئتين في المجتمع الكفار والمنافقين. وتعود بنا الآيات للإلتفات إلى دور الإنسان بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم،  هذا الدور الذي يطالبه الله أن يلعبه في المجال العام.  فبعد أن ينبه إلى ضرورة سلامة البيئة العائلية من محاولات الهيمنة والتلاعب، ويؤكد السمؤولية الفردية على النفس والعائلة. ترد الآيات أن الدور الرئيسي يجب أن يقام به في المجال العام حيث يتفرغ الرسول لمواجهة الكفار والمنافقين.  وإن غيب أمكانية المجاهدة والغلظة في المجال العائلي ولكن المجال العام وفي مواجهة أعداء الدين لا تستعمل الأساليب ذاتها. 
في هذه السورة تتقاطع المجالات الأربعة للوجود كما يراها العقل المسلم بشكل بناء ومحدد، فنرى بوضوح مثالا قويا عن المجال الخاص، هذا المجال الذي يكوِن فضاء الأسرة والعائلة، وإن كان الحدث يتمثل بحدث يقع في أشرف أسرة عرفتها البشرية، أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي ليست بدعا من الأسر وما يجري بها أمثلة عما قد يجرِ بكل أسرة بشرية.  أما المجال العام فهي الحياة العامة بالمعنى الإجتماعي للمصطلح،  حيث تتحول الحياة الفردية والحدث العائلي إلى قضية عامة ذو أبعاد خطيرة على الفرد نفسه وعلى مستوى البشرية جمعاء.  فنهاية السورة تنقلنا بشكل واضح لأربعة أمثلة كيف أن خيارات الإنسان في المجال الفردي لها أبعادها على المجال العام.  فامرأة لوط وامرأة  نوح كانتا مثالا عن تقاعس الفرد عن أدراك البعد العام للرسالة الربانية،  وكان خضوعهما لخيارالكفر رغم صلتهما الخاصة بالنبوة سببا في ترديهما. 
أما امرأة فرعون فكانت المثال الذي يعكس حالة من استطاعت الخروج عن دائرة القيود التي يفرضها المجال الخاص، كونها من أسرة كافرة، والتمرد عن دائرة الحياة العامة التي تحكم وضعها من "أهل القصر" لتختار قرب الله سبحانه وتعالى وتكون من الناجين بذاتها.  وإن كانت تمكنت إمرأة فرعون من الخروج عن قيود الحياة الخاصة الفرعونية، والتحرر من ضغوط الحياة العامة بحكم انتمائها للأسرة الحاكمة. ولكن بقيت نتائج خياراتها وإيمانها تنعكس على  رقيها الروحي الفردي،  فنراها قد أختارت بيتا لذاتها عند الله سبحانه وتعالى. 
ولكن مقارنة مع قصة مريم البتول تظهر اختلافا،  فهي مثال الطهر والتعفف في صميم الذات، وخياراتها لقرب الله سبحانه وتعالى لم تنجها فقط بذاتها،  فالله اجتباها لأجل هذه الخيارات لتكون حاملة لأكبر "حدث" عام فيما قبل البعثة المحمدية، فما لحالة أن تتصف بالفردية والخصوصة مثل احصان الفرج،  ولكن نتج عنه هذه الحالة (الفردية الخاصة) تغير الحياة العامة تغيرا جذريا على يد السيد المسيح عيسى عليه السلام.
ويبدوا طبيعيا أن تختم هذه السورة بمثال امرأة فرعون ومريم العذراء، فكأنه يخلق آفاق ممكنة لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل خاص ونساء المسلمين بشكل عام.  فكما أن المرء بأمكانه أن يشغل النفس بترهات الحياة اليومية التي تصدرت بها السورة، يمكنه أن يرى بالمثالين الأخيرين قدوة تحتذى بالعمل الصالح والسعي الدئوب إلى الله. 
بقايا[6]
يسعى الدين بشكل مستمر للرقي بالإنساني فكرأ وعملا.  وقد ينتج عن هذا السعي  للرقي شعور بالميل نحو الكمال ورغبة به،  والأسرة المسلمة تحمل في طياتها تركيب سلطوي تجعل رب الأسرة مسؤول عن فلاح عائلته وأهله، والآيات تقر هذه المسؤولية الفردية عن إنقاذ الأهل من عذاب الله وناره.  ولكن من ناحية أخرى تسعى السورة إلى الحد من قدرات هذه التركيبة السلطوية التي يملكها رب الأسرة.  فالحدث الجل الذي تتصدر به السورة يتم في بيت أشرف الناس، و"الخطاء" الذي وقع مارسته أثنتين من أمهات المؤمنين،  ومن يتمعن قراءة وترتيلا لهذه السورة يُبْنى لديه شعور بالمسايرة والتقبل الجزئي لما قد يطرأ في أسرته من أحداث، وإن كان رأى في هذه الأحداث انزلاق بعيدا لأهله عن مراحل الكمال الذي أرادها لهم.  فإن كان رسول الله عانى ما عانى من أهله فلي بصبره وتحمله أسوة حسنة أعامل بها أهلي وعائلتي. 
أما أفراد العائلة الذين يقعون بهذه الترهات[7].  فالرسالة واضحة؛ فإن كان التهديد لأهل بيت الرسول واضحا بمواجهة مع الله وجبريل والمؤمنين وصالح المؤمنين، فما يكون التهديد لمن هو أدنى من أهل بيت الرسول.  إن الخيارات المطروحة أمام من يرتل القرأن حق الترتيل واضحة في الآيات الأخيرات من السورة.  فهناك تنوع في الخيارات الخاطئة التي يمكننها أن نتبناها ومثاليهما إمرأة نوح وإمرأة لوط.  وتنوع في نتائج الخيارات الصحيحة كمثالى إمرأة فرعون ومريم العذراء. 
وتراتيل هذه السورة يذرع في نفس المرتل أدراك ذهني لعملية التحريم والتحليل.  فنهي الرسول عن التحريم في هذه القضية لا يضع قدرة الرسول على التحريم موضع السؤال.  ولكن ينبه لهذه العلاقة بين العام والخاص في عملية التحريم النبوي.  فالقارئ يدرك ضمنيا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو حامل الرسالة، ولكنه بنفس الوقت لم يترك وحيدا في تحمل عبئها. فالله سبحانه وتعالى يتدخل ليصحح أي إشكال مهما صغر ولو كان بقضية شرب نوع من العسل. 
أما على الصعيد الفكري، فمرتل السورة يشعر في قرارة نفسه الضيق والحرج الذي يضع الكافر نفسه بهما بكفره،  فالكافر يسيطر عليه شعور بالإنغلاق في الخيارات حتى العذاب كان مبهما والفعل قد انعدم لديه فلا قدرة له على الفعل فلا اعتذار يجديه ولا يُدعى إلى الإستغفار. ويسيطر على المؤمن شعور مستمر بإنفتاح الإمكانيات والخيارات أمامه.  فحتى التوبة ممكنة وتاتي بثمارها بإذن الله.  ومن ينمو لديه ذلك الشعور بالقدرة على الفعل وتغيير مصيره بإذن ربه الذي هو " عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" يصحب معه هذا الشعور في الدنيا ويبعث معه في الآخرة فنراه يسأل الله سبحانه وتعالى المزيد من النور ولا يرضى بالوضع القائم وإن كان هذا الوضع نورا يوم القيامة لم يتم بعد.   



[1] نزلت بالمدينة. وآيها محكم، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ. انظر"الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم"  ابن سلامة  .  
[2] {الكشاف  الزمخشري  الصفحة : 1270 }
[3] أنظر حديث تأبير النخل وغيره
[4] أنظر البخاري "كتاب الطلاق"
[5] رواه البخاري
[6] بقايا هي تلك الحالات الذهنية التي قد يخلفها لدى الإنسان ترتيل السورة والتي تترسب في ضمير الفرد وتأثر على رؤاه للذات والكون.
[7] ليس دائما الذين يصنعون الترهات في الأسرة هم من النساء،  فكثيرا ما نرى الأدوار قد تبادلت بين الرجل والمراة في كثير من العوائل، فنرى المرأة تقود بيتها بحكمة ونجاح بينما يغرق الرجل بالقيل وقال واختلاق المشاكل وما إلى هناك.